Translate

Sunday, September 25, 2011

آفة المخدرات ... إلى أين؟


د.خالد النويصر
khalid@lfkan.com
المخدرات آفة العصر، انتشرت في كل المجتمعات دون رحمة أو هوادة، هي من أخطر المشاكل الصحية والاجتماعية والنفسية، بل والخطر الأكبر على السلام الاجتماعي برمته في كل مكان، إنها مشكلة أكثر من 800 مليون من البشرية يتعاطونها أو يدمنون عليها، إنه واقع مؤلم ومرير لكن لا بد من الاعتراف بأن تلك الآفة طالت الجميع بما فيه مجتمعنا وحطمت فلذات أكبادنا شأننا في ذلك شأن مجتمعات الدنيا كلها، فبعض أبناؤنا أغواهم الأشرار وأصبحوا فريسة لهذه الآفة، وفي أكثر من بيت ابن وابنة يئنون من وطأة هذا الوباء الفتاك وهم ضحايا له.
الدولة بذلت ولا تزال تبذل جهوداً كبيرة للتصدي لهذه الآفة، لكن المسألة أكبر وأعقد من ذلك بكثير، إذ ليس بمقدور أي دولة في العالم أن تتصدى لمثل هذه الكارثة بمفردها، حيث إنها كانت وما زالت من أكثر المشاكل خطراً وتعقيداً ولا يمكن القضاء عليها ما دام هناك أنفس شريرة وأنفس ضعيفة وهذه سنة الكون منذ فجر الخليقة والتي تتجلى في الصراع الأبدي بين الخير والشر. إن مسؤولية التصدي لهذه المشكلة تقع على عاتق الجميع، فبالإضافة إلى الدولة بمؤسساتها العامة من تعليم وتربية وإعلام وأمن وخلافه ، فالأسرة تُعتبر الأساس وحجر الزاوية في هذا الشأن، رغم أن المؤلم أن الحياة شغلتنا كثيراً حتى أصبحنا نبحث عن النجاحات المادية على حساب علاقتنا وقربنا من أبنائنا وبناتنا الذين يحتاجون إلينا في هذا الزمن الصعب أكثر من أي وقت مضى.
لقد ساهم عدد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية لتجعل من المخدرات خطراً وكابوساً يهدد العالم، حيث حطمّت المخدرات بعض الشباب من الجنسين بصورة مؤلمة وغير مسبوقة، بل سببت مآسي ومشاكل لأولئك الضحايا الذين دمرت المخدرات إنسانيتهم وكرامتهم وكبريائهم ومستقبلهم. إن المجتمع السعودي لم يعرف المخدرات بشكل مزعج إلا في السنوات الأخيرة وبعد أن وجد المروجون أن سوق المملكة مرتع خصب لهم، حيث إن المجتمع كان بسيطاً وتسوده الفضيلة والأخلاق الحميدة، وقد كان لانعكاسات تلك الطفرة الاقتصادية العالمية والعولمة وارتفاع حجم التجارة الدولية مروراً بالسلبيات الناتجة عن ممارسات بعض العمالة الأجنبية إلى جانب ازدياد معدلات البطالة بين الشباب وغيرها أن صاحبتها آثار سلبية عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر زيادة حجم الواردات وما تبع ذلك من تهريب كميات من المخدرات مخبأة في تلك الواردات رغم الإجراءات الاحترازية الكبيرة التي تقوم بها الجهات ذات الصلة.
لقد صدر نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بناء على المرسوم الملكي رقم م/39 في 8/7/1426هـ والذي نص في مادته رقم (37 ) على (أنه مع مراعاة ما ورد في البند (ثانياً) من هذه المادة يعاقب بالقتل تعزيراً من ثبت شرعاً بحقه شيء من الأفعال الآتية:
تهريب مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية.1
تلقي مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية من مهرب.2
جلب أو استيراد أو تصدير...  .3
 المشاركة بالاتفاق في ارتكاب أي من الأفعال المنصوص عليها في الفقرات السابقة....4
 …ترويج مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية.5
ويُلاحظ أن النظام قد فرق بين المهرب والمروج والمتعاطي، إذ قرر وغلظ أشد العقوبات على المهرب والمروج وهي القتل نظراً للجرم الكبير والعظيم من تهريبهما وترويجهما للمخدرات أو الاثنين معاً وما يسببه ذلك من دمار وفساد كبير، وبشأن المروج ونظراً لخطورة دوره فقد أفاض النظام في تحديد عقوبته، إذ جعلها القتل إذا ما قام بترويج مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية للمرة الثانية بالبيع أو الإهداء أو التوزيع أو خلافه شريطة أن يكون هناك حكم سابق بإدانته بالترويج للمرة الأولى، كما تكون عقوبة القتل في حقه أيضاً حتى في حالة ترويجه مخدرات للمرة الأولى على أن يكون قد سبق إدانته بارتكاب جريمة تهريب أو تلقي أو جلب أو استيراد مواد مخدرة وغير ذلك. أما المتعاطي فقد أسهبت المادة الحادية والأربعون في توضيح عقوبته حيث أوردت (يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنتين، كل من ارتكب أحد الأفعال الجرمية المنصوص عليها في المادتين (37 و38) من هذا النظام وكان ذلك بقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي في غير الأحوال المصرح بها نظاما) كما تضمن النظام تشديد هذه العقوبة في حالات أخرى.
ومن الملاحظ أن هذا النظام بما يتضمنه من نصوص هو نظام اتسم بالفاعلية والحزم في تصديه لهذه المشكلة الكبيرة، لكن السؤال المهم الذي يُطرح هنا هو أنه وبالرغم من غلظة وشدة العقوبات التي وصلت لدرجة القتل، هل أدى ذلك كله إلى التصدي لمشكلة المخدرات بالشكل المأمول؟ والإجابة أن ذلك أمر لم يتحقق بعد، فعلى الرغم من استمرار ضبط المهربين والإيقاع بهم، فإنهم لا يزالون يهربون هذه المواد القاتلة رغم هذه العقوبات الشديدة والمغلظة، كما أنه يلاحظ أن المتعاطين لاسيما الشباب المغرر بهم من قبل عصابات المخدرات الإجرامية لم تتم معالجة حالاتهم بالشكل المطلوب لاسيما على صعيد الحماية والرعاية والأخذ بأيديهم لإخراجهم من محنتهم، حيث إنهم في أمس الحاجة للجانب الوقائي أولاً قبل الجانب العلاجي للتصدي لآفة المخدرات، وهناك عدة مقترحات لحماية النشء والشباب باعتبارهم صناع ورجال المستقبل وبناة نهضة الوطن، ويمكن إيرادها كالتالي:
أولاً: التواصل المستمر مع الأبناء بهدف الاستماع إلى كافة مشاكلهم ووضع الحلول المثلى لها وسماع وجهات نظرهم في كثير من الأمور وتفهمها ومناقشتهم حولها بمستوى إدراكهم بحيث يؤدي ذلك إلى إيجاد أرضية صالحة للالتقاء والحوار الأسري معهم.
ثانياً: تفعيل دور المجتمع من خلال تنشيط مؤسسات المجتمع المدني للعمل على إقامة برامج رياضية وثقافية واجتماعية تستوعب أوقات فراغ الشباب وتنمي الدور الاجتماعي لهم من خلال توفير الفرص لمشاركتهم في كافة فعاليات تلك الأحياء.
ثالثاً: التركيز في مناهج التربية والتعليم منذ الصغر على تحصين الطلاب مبكراً ضد هذا الوباء وغرس القيم التي تولد احترامهم للحياة الصحيحة والسليمة.
رابعاً: الحرص على انخراط الطلاب والطالبات في البرامج الرياضية وفتح آفاق جديدة أمامهم، حيث إن الفراغ وغياب الإبداع والابتكار والتفكير يدفعهم إلى مثل هذه المهالك.
وأخيراً فقد حان الوقت لندرك جميعاً أن غياب الفن من حياة الأفراد يفضي إلى خلق شخصية غير متوازنة ومهزوزة وغير سوية، وهذا مناخ خصب لاستشراء مشكلة المخدرات وغيرها، فالاستقرار النفسي والتوازن الوجداني والعاطفي يخلق نوعاً من الثقة المفعمة والصفاء والرضا للنفس البشرية ويجعلها تقبل على الحياة بحب وأمل وتفاؤل للعطاء والإبداع، بل إن الفن هو أنجع ترياق لتحصينها ضد كل هذه الآفات والمهالك، لذا فإن الفن هو أجدى الحلول لحماية النفس الإنسانية من كل هذه الشرور والآفات، حيث إنه غذاء للأرواح والقلوب التي يجب الترويح عنها ساعة بعد ساعة لأن القلوب إذا كلت عميت.

Sunday, September 18, 2011

حجية أحكام التحكيم


د.خالد النويصر
khalid@lfkan.com
لقد أثبت التحكيم التجاري أهميته على الأصعدة الإقليمية والدولية كافة حتى أصبح واقعا لا تخلو دولةٌ من دول العالم من النص عليه في قوانينها، كما أُنشئت له الهيئات والمراكز المحلية والإقليمية والدولية المعنية به وأُعدت له المنتديات والملتقيات الكثيرة المتعددة التي تبحث في آخر مستجداته وتطوراته، وذلك وفقا لطبيعة القضايا التي ينظرها ومجمل الأحكام الصادرة بشأنها.
ومن الأمور المهمة في هذا الجانب موضوع حجية أحكام التحكيم؛ إذ يُفترض أن تقوم هيئة التحكيم بحسم المنازعة المطروحة عليها بين الأطراف بمقتضى السلطة التي يمنحها لها اتفاق التحكيم. ونظرا لأن الطبيعة المركبة للتحكيم في كونه اتفاقي النشأة وقضائي الوظيفة، فإنها تؤثر تأثيرا كبيرا في احترام حجية أحكام هيئة التحكيم، كما أنّ افتقار أعضاء هيئات التحكيم الذين هم أفراد عاديون لسلطة الأمر والنفاذ للأحكام الصادرة عنهم لا يمنح أحكامهم طابع التنفيذ الجبري، الأمر الذي يستلزم تدخل الدولة لإصدار أمر تنفيذ الأحكام الصادرة عن هيئات التحكيم.
إن احترام أحكام التحكيم المحلية الصادرة عن هيئات التحكيم يرتبط تنفيذها بطريقتين، إحداهما إجبارية والأخرى اختيارية إذا اتفق المحتكمون على ذلك بعد صدور الحكم الذي يُعد الطريق الأكثر توافقا مع طبيعة التحكيم. أما التنفيذ الجبري لأحكام التحكيم فيقتضي خلو الحكم من العيوب وتحقق الشروط، ثم صدور التنفيذ من الجهة القضائية المختصة، والثابت فقها أن أحكام التحكيم ليست لها حجية الشيء المقضي إلا فيما يتعلق بالمنازعة التي حسمها حكم التحكيم وحيازة الحكم لهذه الحجية تصبغ الحكم بصبغة القيمة أو المشروعية وعدم إمكان المنازعة فيه إلا عن طريق الطعن المناسب، كما أن تلك الحجية تشكل دافعا بعدم القبول إذا تمت إثارة النزاع مرة أخرى بإجراءات جديدة.
وطبقا لنص المادة (7) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم7/2021/م في 8/9/1405هـ، فإن الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع هي ذاتها التي تختص بتنفيذ حكم التنفيذ مثل المحاكم الإدارية (ديوان المظالم) طبقا للمادة (16) من نظام المرافعات أمامه، أما إذا كانت المنازعة تقع في دائرة اختصاص القضاء العادي، فإن المحكمة العامة هي المختصة بتنفيذ حكم التحكيم. وفي حال تعلق الأمر بتنفيذ حكم تحكيم أجنبي، فإن المحاكم الإدارية هي الجهة المختصة بتنفيذه طبقا لقرار مجلس الوزراء رقم (251) وتاريخ 28/12/1379هـ - ووفقا لنص المادة (7) من نظام المرافعات أمام ديوان المظالم.
واستنادا إلى نص المادة (18) من نظام التحكيم الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/46 في 12/07/1403هـ، والتي نصت على أن جميع الأحكام الصادرة من المحكمين ولو كانت صادرة بإجراء من إجراءات التحقيق، فإنه يجب إيداعها خلال خمسة أيام لدى الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع وإبلاغ الخصوم بصورة منها، ويجوز لأولئك الخصوم تقديم اعتراضاتهم خلال 15 يوما من تاريخ إبلاغهم بأحكام المحكمين. كذلك فقد نصت المادة (19) من النظام المذكور على أنه "إذا قدَّم الخصوم أو أحدهم اعتراضا على حكم المحكمين خلال المدة المنصوص عليها في المادة السابقة، تنظر الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع الاعتراض وتقرر إما رفضه وتصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو قبول الاعتراض وتفصل فيه"، أما المادة (20) فقد نصت على أن "يكون حكمُ المحكمين واجبَ التنفيذ عندما يصبح نهائيا، وذلك بأمر الجهة المختصة بنظر النزاع...". وبعد وضع الصيغة التنفيذية يُعد حكم التحكيم كأنه صادر من الجهة المختصة كما نصت على ذلك المادة (21) من نظام التحكيم بأنه "يُعتبر الحكم الصادر من المحكمين بعد إصدار الأمر بتنفيذه حسب المادة السابعة من قوة الحكم الصادر من الجهة التي أصدرت الأمر بالتنفيذ". وبناءً على ذلك يبدأ الخصم الذي صدر الحكم لصالحه في تنفيذه على النحو الوارد في المادة (44) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم التي ورد نصها بأنه "متى صدر الأمر بتنفيذ التحكيم أصبح سندا تنفيذيا... أن تُسلم المحكوم له الصورة التنفيذية لقرار التحكيم موضحا بها الأمر بالتنفيذ".
وتأسيسا على كل ما تقدم من مواد، يتضح أن حكم التحكيم يصبح نهائيا بمضي مدة الاعتراض عليه، وهي 15 يوما من تاريخ إبلاغ الخصوم، أما إذا تم الاعتراض عليه فلا يصير نهائيا إلا إذا تم تأييده من الجهة المختصة. يجدر ذكره أن هنالك جدلا قانونيا يُثار كثيرا حول طبيعة وأثر الأمر بالتنفيذ الذي يصدر من القاضي المختص على حكم التحكيم؛ إذ إنه من الطبيعي أن الأمر بالتنفيذ هو دليل على قابلية الحكم للتنفيذ الفوري ومن ثم وجب تذييل جميع أحكام التحكيم بالصيغة التنفيذية حال تنفيذها بالطرق الرسمية؛ إذ إنه معلوم أنه لا يقصد من ورقة الأمر بالتنفيذ أن يتحقق القاضي من عدالة المُحكم كما لا يقتصر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم منح الورقة الصفة الرسمية فقط، وإنما تستمد مراقبة القضاة لأعمال المحكمين من أن اتفاق الخصوم على التحكيم قد تضمن مراعاة النصوص والأحكام التي يرونها لازمة، إضافة إلى مراعاة المحكمين والتزامهم بالأحكام والمبادئ النظامية المنصوص عليها في الدولة ذاتها، حيث يجب تأكد القضاة من أن المحكمين قد راعوا هذه القواعد سواء أكانت باتفاق الخصوم أو ما نص عليها النظام. وفي حال رأى القاضي عدم مراعاة المحكمين لهذه الأحكام، فإنه يمتنع عن إصدار الأمر بالتنفيذ، وبذلك فلا حجية لحكم التحكيم إذا لم يراع النظام العام أو أنه لم يتقيد بالقواعد العامة التي تجب مراعاتها في نظام التحكيم.
إنه من الأهمية معرفة أن إطلاق حق الأطراف في الطعن على حكم التحكيم، وعدم حصر الحالات التي تجيز الطعن فيه، سوف يؤدي إلى النيل من قاعدة حجية أحكام التحكيم ويعطّل تنفيذها. كما أنه متى تم النيل من هذه الحجية، فإن ذلك سوف يؤدي إلى نتيجة عكسية على نظام التحكيم برمته، حيث يغدو اللجوء إليه مضيعة للوقت؛ لأن المحكمة المختصة والمخولة بنظر النزاع والاعتراض على حكم التحكيم سوف تنظر في جميع الأحوال موضوع الدعوى كاملا؛ مما يؤدي أيضا إلى إطالة أمد النزاع وما يستتبعه ذلك من أضرار، أهمها أن العدالة البطيئة أدعى إلى ضياع الحق،الأمر الذي يتطلب أن تحوز أحكام التحكيم على قاعدة قوة الأمر المقضي وهي ذات الحجية المقررة للأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم بما يسمح بتنفيذها وفقا للقواعد النظامية المنصوص عليها وبالقوة الجبرية إذا لزم الأمر.
لذلك فإنه قد يكون من الأفضل أن تُحدد الحالات التي يجوز للمحاكم مراقبتها أو الاعتراض على أساسها على حكم التحكيم، التي منها على سبيل المثال لا الحصر مخالفة حكم التحكيم لأحكام الشريعة الإسلامية وبطلان الإجراءات، وذلك على النحو الموضح في بعض أنظمة التحكيم العربية؛ وذلك ليؤدي التحكيم الغاية المرجوة منه ويخدم أهداف ومصالح أطرافه بما ينعكس على دفع عجلة اقتصاد الوطن لخير مواطنيه كافة.

Sunday, September 11, 2011

وقف الدعوى التحكيمية


د.خالد النويصر
khalid@lfkan.com
إن أحد الأسباب الرئيسة للجوء الأطراف إلى آلية التحكيم هو سرعة الفصل في النزاع واقتصاد النفقات على النحو الذي يتميز به نظام التحكيم عن المحاكم القضائية، ويتطلب تحقيق ذلك الوصول إلى اتفاق بين تلك الأطراف على اللجوء إلى التحكيم وتوقيع وثيقته وفق الشكل المطلوب في نظامه واعتمادها من قبل الجهة المختصة بنظر النزاع بعد توقيعها من المُحكّم أو المحكمين واختيار سكرتير هيئة التحكيم وإشعار الخصوم والمحكمين بذلك، وإذا ما تم الانتهاء من كل تلك الإجراءات فإن المرحلة التالية هي مرحلة بداية نظر الدعوى التحكيمية والسير في إجراءاتها.
إنه من المعروف أن أول إجراءات نظر هذه الدعوى هو تحديد ميعاد لاجتماع هيئة التحكيم ومن ثم تحديد جلسة لنظر هذه الدعوى، على أن يتم إبلاغ الأطراف بهذه الجلسة ومن بعدها الجلسات التالية التي تنظر فيها الدعوى وسير العملية التحكيمية، كما تقوم هيئة التحكيم بتحقيق دفاع المدعي والمدعى عليه ومذكراتهم وطلباتهم وفق نصوص النظام، ويحق لهيئة التحكيم أثناء نظر هذه الدعوى اتخاذ أي من الإجراءات التي تراها مناسبة للنزاع على ألا تخالف نصوص وأحكام نظام التحكيم، ومن هذه الإجراءات تقديم المستندات والدفاع من جانب الأطراف كافة وسماع الشهود والاستعانة بإعمال الخبرة والانتقال والمعاينة، إضافة إلى العديد من الأمور الأخرى التي يجوز لهيئة التحكيم اتخاذها أو الأمر بها حال نظر الدعوى التحكيمية، كما أن لها الحق في تأجيل نظر الدعوى أو وقفها.
ويُعد وقف الدعوى التحكيمية من الإجراءات المهمة التي يجوز لهيئة التحكيم الأمر بها؛ إذ يتضمن الوقف عدم السير في الدعوى أو الفصل فيها على غير الهدف والغاية التي كان يصبو إليها الخصوم من دعواهم، ما يعد سببا من أسباب عدم تحقيق الغايات التي يهدف إليها نظام التحكيم وأخصها سرعة الإجراءات والفصل في النزاع. وتتعدد حالات وقف الدعوى التحكيمية فمنها ما يتم باتفاق الأطراف وتحقيق رغبتهم في وقف الدعوى لأي سبب يرونه ومنها أيضا الوقف بحكم النظام أو الحالات التي يتطلب فيها النظام وقف الدعوى التحكيمية بقرار من هيئة التحكيم.
إن وقف الدعوى التحكيمية قد يكون بناءً على رغبة الخصوم طبقاً للمادة 24 من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم الصادر بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 7/2021 وتاريخ 08/09/1405هـ، وهذه الحالة لا تثير خلافا عمليا أو نظريا استنادا إلى رضائية التحكيم باتفاق خصومه على اللجوء إليه، وما على الخصوم إلا طلب الوقف في حالة استجابة هيئة التحكيم لذلك الطلب ثم بعد ذلك طلب إعادة السير في الدعوى بعد انتهاء فترة الوقف. أما وقف الدعوى التحكيمية بقوة النظام فيُعد من أهم أنواع حالات الوقف؛ إذ يتم وفق الحالات التي حددها نظام التحكيم ومثالها حالة رد المحكم عن نظر الدعوى، إذ يتطلب الفصل في طلب الرد من قبل الجهة المختصة وقف السير في الدعوى التحكيمية لحين الفصل في طلب الرد المقدم في الدعوى التحكيمية، وقد ورد بنص المادة الثانية عشرة من نظام التحكيم أنه ''يطُلب رد المحكم للأسباب ذاتها التي يرد بها القاضي ويرفع طلب الرد إلى الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع خلال خمسة أيام من يوم إخبار الخصم بتعيين المحكم أو من يوم ظهور أو حدوث سبب من أسباب الرد، ويحكم في طلب الرد بعد دعوة الخصوم والمحكم المطلوب رده إلى جلسة تعقد لهذا الغرض''. وبذلك يُعد طلب رد المحكم من الأمور الأولية التي يجب الفصل فيها من الجهة المختصة قبل الفصل في النزاع التحكيمي وتخرج عن ولاية هيئة التحكيم ما يتطلب معه وقف السير في الدعوى التحكيمية برمتها.
كما يُعد من الأمور الأولية المهمة التي تخرج عن اختصاص هيئة التحكيم - بقوة النظام - الطعن بتزوير أي من المستندات المقدمة في الدعوى أو أي من الأمور التي تتطلب اتخاذ إجراء جنائي؛ مما يتطلب معه الأمر بوقف الدعوى التحكيمية لحين الفصل في هذه الأمور؛ إذ إنه عادة ما يترتب على الفصل في هذا الأمر تغيير وجهة النظر والحكم في الدعوى التحكيمية إذا كان هذا المستند أو هذا الإجراء منتجا في الدعوى التحكيمية، وذلك على النحو المنصوص عليه في المادة 37 من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم التي ورد نصها ''إذا عُرضت خلال التحكيم مسألة أولية تخرج عن ولاية هيئة التحكيم أو طعن بتزوير في ورقة أو اُتخذت إجراءات جنائية عن تزويرها أو عن حادث جنائي آخر أوقفت الهيئة عملها، ووقف الميعاد المحدد للقرار إلى أن يصدر حكم نهائي من الجهة المختصة بالفصل في تلك المسألة العارضة''. وإنه وإن كان هذا الإجراء صحيحا وفق نصوص النظام إلا أنه كان يجب أن يعطي الحق لهيئة التحكيم في تقدير مدى أهمية هذا الإجراء أو فاعلية الطعن بالتزوير بالنظر إلى أهمية المستند المطعون فيه وهل هو فاصل في الدعوى من عدمه؟ ومن ثم فلهيئة التحكيم الاستجابة لهذا الإجراء أو طلب التزوير من عدمه، وكذلك أي من الإجراءات الأخرى التي يطلب فيها أي من الخصوم وقف الدعوى التحكيمية لحين الفصل في هذه المسألة؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى وقف الدعوى دون هدف أو سند، الأمر الذي يعصف بالغاية المرجوة من نظام التحكيم.
وأخيرا ووفقا لما سبق تقديمه، فإن الأمر بوقف الدعوى التحكيمية بقرار من هيئة التحكيم يُعد من الإجراءات المهمة في الدعوى التحكيمية؛ مما يتطلب معه تحديد الحالات التي يجوز فيها لهيئة التحكيم الأمر بوقفها؛ لأنه كثيرا ما يطلب أحد الأطراف وقف السير في الدعوى دون سند من النظام، كما يُعد من المهم تحديد المدة الزمنية التي يجوز فيها للأطراف طلب وقف الدعوى التحكيمية اتفاقا، ولتكن هذه المدة شهرا على سبيل المثال، والهدف من هذا التحديد هو تجنب أن يكون أعضاء هيئة التحكيم تحت تصرفات الخصوم إلى ما لا نهاية ، ومتى زادت المدة على شهر فيحق لهيئة التحكيم زيادة مقدار الأتعاب؛ حتى لا يؤدي وقف الدعوى التحكيمية إلى إهدار الغاية المرجوة من التحكيم وهي سرعة الإجراءات والفصل في النزاع مما يترتب عليه إضاعة حقوق الناس وضعف ثقتهم بالعدالة مما يعود على الاقتصاد بأثر سلبي.

Sunday, September 4, 2011

طرق تعيين المُحكّم وشروط اختياره 2


د.خالد النويصر
khalid@lfkan.com
إن من المعلوم أن المحكم هو شخص يتمتع بثقة كافة الأطراف التي أولته عناية الفصل في خصومة قائمة بينها، حيث يقوم بذات عمل القاضي، إلا أنه لا يُشترط فيه شروط تعيين القاضي مثل الخضوع لنظام المخاصمة ولا تُقام ضده دعوى إنكار العدالة التي يمكن إقامتها ضد القاضي، كما لا تُسأل الجهات الرسمية عن أخطاء المحكمين.
ونظرا لأهمية عمل المحكم والحكم الصادر عنه، فقد نص نظام التحكيم رقم 46 وتاريخ 12/07/1403هـ في المادة الرابعة منه على الشروط التي يجب توافرها في من يُعين محكما بأنه ''يُشترط في المحكم أن يكون من ذوي الخبرة حسن السيرة والسلوك، كامل الأهلية وإذا تعدد المحكمون وجب أن يكون عددهم وترا''. وقد تضمنت المادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم الصادرة طبقا لقرار مجلس الوزراء رقم 7/2021 وتاريخ 08/09/1405هـ أمورا أخرى يجب توافرها في المحكم؛ إذ ورد نصها على أنه ''يكون المحكم من الوطنيين أو الأجانب المسلمين من أصحاب المهن الحرة أو غيرهم، ويجوز أن يكون من بين موظفي الدولة بعد موافقة الجهة التي يتبعها الموظف، وعند تعدد المحكمين يكون رئيسهم على دراية بالقواعد الشرعية والأنظمة التجارية والعرف والتقاليد السارية في المملكة".
ووفقا لتلك النصوص النظامية يُشترط أن يكون المحكم من ذوي الخبرة بالنظر إلى طبيعة النزاع الذي ينظر فيه، وذلك طبقا للمادة الرابعة من نظام التحكيم؛ ذلك أن الهدف الذي يسعى النظام إلى إقراره هو طرح النزاع على أشخاص متخصصين في هذا الجانب؛ الأمر الذي يؤدي إلى ثقة الخصوم لاختيار المحكم للحكم في النزاع، إلا أن النص السابق لم يحدد الدلائل والشروط المتعلقة بهذا الخصوص والتي يمكن تحديدها بحصول المحكم على مؤهل معين في ذات التخصص موضوع النزاع أو ممارسته دعاوى من ذات الموضوع، ويرجع تقدير كل ذلك إلى الطرف الذي قام باختياره، ومن ثم فليس للطرف الآخر حق طلب عزل المحكم لهذا السبب؛ لأنه من المعلوم أنه تم اختيار المحكم بعد التأكد من توافر هذه الخبرة فليس له الادعاء بعد ذلك بعدم توافرها، ومن ثم طلب عزله تأسيسا على هذا السبب.
إن من الشروط العامة التي تطلبها نظام التحكيم في المادة الرابعة كذلك أن يكون المحكم الذي تم اختياره حسن السيرة والسلوك، وهذا الشرط نصت عليه أغلب تشريعات التحكيم، حيث إن المحكم يقوم بعمله كالقاضي - كما أسلفنا - ويجب ألاّ تمس سمعته وتصرفاته وحياده ونزاهته أية شوائب تنال من حكمه، بيد أن مثل هذه الشروط يُفترض توافرها في المحكم إلى أن يثبت العكس بأي من طرق الإثبات التي يراها الخصم، أما شرط الأهلية والعدد فلا خلاف عليهما في النظم القانونية الأخرى التي منها النظام السعودي.
هذا، وقد منعت المادة الرابعة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم سابقة الذكر أن يكون محكما من كانت له مصلحة مادية أو أدبية في الدعوى التحكيمية، سواء كانت لصالحه أو لصالح أي من التابعين له، كذلك منعت تعيين من حُكم عليه بحد تعزيري عن جريمة من الجرائم المخلة بالشرف أو الأمانة، وكذلك من تم إشهار إفلاسه أو إعساره ولم يُرد إليه اعتباره؛ لأن جميع هذه الأمور تخل بقاعدة حسن السيرة والسلوك، كما أن من القواعد العامة الأخرى عدم جواز تعيين أحد خصوم الدعوى حتى لا يكون خصما وحكما في ذات الوقت، كما لا يجوز أن يكون للدائن أو الكفيل أو الضامن محكم بين المدين والغير؛ لأن من صالحه أن يقضي لمدينه حتى يستوفي حقه منه، كما لا يجوز للمهندس الذي أشرف على عملية إنشاء أو قام بتهيئتها للتنفيذ أن يكون حكما في الخصومة بين صاحب العمل والمقاول.
لقد منح نظام التحكيم الأجانب المسلمين العمل كمحكمين خلافا لبعض التشريعات التحكيمية التي لم تتطلب أن يكون المحكم مسلما، فالقضاء يختلف عن التحكيم في هذه المسألة؛ إذ إن القضاء سلطة من سلطات الدولة العامة، لذا فيجب أن يكون القاضي مسلما، أما التحكيم فليس من سلطات الدولة العامة وبذلك يجوز تعيين الأجنبي الذي يحمل إقامة نظامية كمحكم، كما أن شرط إسلام المحكمين واجب بشأن قضايا التحكيم التي تُنظر داخل المملكة بغض النظر عن ديانة الخصوم أما التحكيم الذي يعقد خارج المملكة، فإنه يخضع لقواعد القانون الدولي المعمول به في تلك الدولة، حتى وإن كان أحد أطرافه من السعوديين.
إنه في حال كون الذي يفصل في النزاع هيئة تحكيم مكونة من ثلاثة أعضاء فأكثر، فقد تطلب النظام أن يكون رئيس هيئة التحكيم - طبقا للمادة الثالثة - على دراية بالقواعد الشرعية والأنظمة التجارية. وإزاء وضوح هذا النص الذي اشترط ذلك، فإنه يقتصر على هيئة التحكيم الثلاثية وليس المحكم الفرد، والهدف الذي أراده المنظم من ذلك أن يكون الحكم الصادر مطابقا لأحكام الشريعة الإسلامية ومتوافقا مع الأعراف والتقاليد السارية في المملكة، وإن كنا نرى أن هذه الغاية تنسحب أيضا على المحكم الفرد، حيث كان يجب النص عليها حال تعيين محكم واحد للفصل في النزاع، إلا أن الواقع العملي قد حل هذه المشكلة؛ إذ عادة ما يكون رئيس هيئة التحكيم مستشارا قانونيا أو شرعيا، وأما بشأن إلمام رئيس هيئة التحكيم بالأعراف والتقاليد فهو حكم مفترض إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك.
إن من الأمور التي تُؤخذ على نص المادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم أنه يُشترط في رئيس هيئة التحكيم الدراية بالأنظمة التجارية دون غيرها من الأنظمة الأخرى؛ لأن التحكيم قد يشمل العديد من المنازعات الحقوقية والمدنية والتجارية، وبمعنى أدق أن التحكيم يجوز أن يكون في جميع الأمور عدا ما استُثني بنص النظام والتي يدخل فيها جميع المجالات، ونرى أنه كان من الأفضل عدم اشتراط ذلك.
إن التفرقة بين الشروط الواجب توافرها في المحكم الذي يتم تعيينه للفصل في النزاع التحكيمي داخل المملكة، وذلك المحكم الذي يفصل في نزاع يحدث خارجها، قد تؤدى إلى خلاف حال تنفيذ الأحكام الصادرة عن هيئات التحكيم الدولية؛ لذا يُفضل توحيد هذه الشروط لتكون واحدة، سواء تم التحكيم داخل المملكة أو خارجها؛ نظرا لأن التحكيم أصبح نظاما دوليا، كما أن هذا الأمر سوف يعود بالفائدة على الأفراد والمملكة معا وإلى استقطاب خبرات تحكيمية من دول أخرى يستفيد منها العاملون بالتحكيم مما يعود بالنفع على الجميع.