د.خالد
النويصر
KHALID@LFKAN.COM
إن المجتمع تسوده وتنتظمه الآن روح ثقافة الحوار
الإيجابية التي أضحت تنداح على جميع قطاعاته متناولة همومه وقضاياه كافة، وإن
المطلوب الصبر على الحوار والترفع فوق اختلافات الرؤى والآراء، ذلك أن قضايا
وهموما كثيرة لا يمكن حلها إلا بمزيد من الحوار وتوسيع مواعينه، وما اختلاف الرؤى
إلا مؤشر صحة ودليل عافية على أن الحوار يسير في الاتجاه الصحيح. كذلك من الأهمية
بمكان أن تجد توصيات الحوار وخلاصات الآراء طريقها إلى أرض الواقع، حيث لا تكون
حبيسة الملفات ويطويها النسيان، مما يجعل الحوار أكثر براجماتية ويمنحه مزيداً من
المصداقية ومزيداً من الثقة لدى الجميع . وإن البدء في إشاعة ثقافة الحوار المفقود
أولاً داخل الأسرة هي أولوية يجب الالتفات إليها، نظراً لأن الأسرة هي حجر الزاوية
الأساسي في البناء المجتمعي والوطني العريض.
إن الحوار يشكل قناة مهمة وفاعلة للتواصل بين
أفراد الأسرة ومن ثم المجتمع إلى جانب دوره الكبير في التصدي للكثير من المشكلات
والانحرافات السلوكية والفكرية للأبناء، حيث يُعزي وجود الكثير من تلك المشكلات
إلى غياب ثقافة الحوار بين الوالدين وأبنائهما، وإن المجتمعات العربية وغالبية
مجتمعات العالم الثالث أمام مشكلة جلية تتمثل في تدني، بل انعدام ثقافة الحوار
فيها وبخاصة داخل الأسرة، وأبلغ مؤشر على ذلك هو ارتفاع حجم القضايا الأسرية
المنظورة أمام المحاكم والمرتبطة بقضايا العنف الأسري وتشرد الأبناء وحالات الطلاق
المتعددة وغيرها، رغم التحذيرات والكتابات العديدة لبعض المفكرين حول هذه المشكلات
الأسرية وأخطارها في وسائل الإعلام المختلفة.
إن غياب ثقافة الحوار والشفافية والمصارحة داخل
الأسرة، سيفضي حتماً إلى غياب تلك الثقافة الإيجابية داخل المجتمع برمته، بل إنه
أفرز للأسف ما يمكن أن نسميه حالة الطلاق الوجداني بين أفراد الأسرة، وما المدخلات
التي تتم في بعض الفضائيات، إلا مثال لحاجة الأبناء إلى مناخ الحوار المفقود أصلاً
داخل الأسرة، حيث يستعيض الأبناء عن ذلك الحوار بالهروب والاندماج مع عدة وسائل
بديلة من بينها منتديات الإنترنت وبعض برامج الفضائيات وغيرها للتعبير عن ذواتهم
ومشاعرهم، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء مشكلة تربوية جديدة، حيث لا تقوم مضامين بعض
تلك الوسائل على أسس تربوية سليمة، بل إنها تُلقي بتداعياتها السلبية على هؤلاء
الأبناء وعلى أسلوب تنشئتهم وتفكيرهم.
إن الحوار المطلوب هو الحوار القائم على منهج
التفكير والجدل والإقناع، لا الحوار القائم على أحادية الرأي ومصادرة الآراء
المخالفة والأوامر والمواعظ والنصائح المنزّلة عمودياً من الوالدين على صورة
مسلمات لا تقبل المناقشة حولها، ولكن يجب التركيز على منهج المشاركة والشورية
وتقبل الآراء الأخرى، ذلك أن كثرة تلك النصائح والأوامر يقود بها إلى أن تفقد
أهميتها وتأثيرها، والملل منها، وعدم الاكتراث بها، مما يؤدي إلى تفريغها من
المطلوب منها فالحوار أضحى أداة ومطلباً ضرورياً في جميع مجالات الحياة بشكل عام
وبداخل الأسرة على وجه الخصوص، حيث إنه يقرب وجهات النظر المختلفة ويزيد من تماسك
الأسرة والمجتمع الكبير ويبث ثقافة التسامح وقبول الآخر واحترامه وتخليص المجتمعات
من الانحرافات الفكرية والسلوكية واعتباره أسلوباً راقياً وحضارياً لحسم الخلافات
عبر الحجة والإقناع والاقتناع، وينطلق مفهوم الحوار من عدة ركائز أساسية ومهمة
منها، أن يكون الحوار متاحاً لجميع أفراد الأسرة دون استثناء وضرورة الالتزام
بآداب الحوار من خلال تقبل وفهم وجهة نظر الطرف الآخر، والتأكيد على أن الاختلاف
ظاهرة صحية يجب على الجميع تأصيلها من خلال إشاعة ثقافة الحوار الذي يجب أن يكون
هو القاسم المشترك بين جميع أفراد الأسرة في جميع قضاياهم وألا يكون مدعاة للخلاف
بقدر ما هو عامل إيجابي في تقريب وجهات النظر والتأكيد على أن الحوار هو الآلية
الناجعة والمثلى للتعامل مع جميع أفراد الأسرة في مختلف شؤونهم وقضاياهم والتركيز
على النقد البنّاء والهادف الذي يبرز الإيجابيات والسلبيات معاً والتخاطب مع
الأبناء بقناعاتهم كما يريدون لا كما يريد الكبار.
إن إشاعة ثقافة الحوار داخل الأسرة باعتبارها
المجتمع الصغير والبحث في ترسيخ قواعده الناجحة من خلال إعادة صياغة القناعات في
إيجابياته تؤدي حتما إلى أن تنداح دوائر التسامح والسلام الاجتماعي وقبول الآخر،
ومن هنا يأتي دور الأسرة في غرس ثقافة الحوار في نفوس أبنائها وتنشئتهم على هذه
الثقافة الإيجابية، بما يدفعهم إلى التعامل بها مع الآخرين ومع المجتمع وقيام
علاقة إيجابية بين الآباء والأبناء تقوم على الاحترام المتبادل بينهم وتحفزهم على
التفكير الصائب والشفافية والمصارحة التي تكشف المشكلات وتساعد على وضع الحلول
المبكرة لها من خلال إزاحة المعوقات والحواجز وتوطيد علاقة الصداقة بين الجانبين
عبر أرضية الحوار البناء. ويا ليت أن يكون ضمن المواضيع المستقبلية القادمة لمركز
الحوار الوطني موضوع إحياء ثقافة الاختلاف في الرأي، حيث يُعد ذلك مسألة مهمة
وإيجابية يتم استصحابها في عملية بناء الإنسان السعودي القادر على تحمل تبعات
البناء والتنمية والعمران، بل معايشة متغيرات العالم العلمية والمعرفية في عصر
العولمة بعقل متفتح وفكر مستنير.