د.خالد
النويصر
ما زالت السجون تكتظ بمساجين الحق الخاص رغم أن
هذه العقوبة لم يعد يُعمل بها، وتم إلغاؤها في العديد من دول العالم إما منذ قرون
أو عقود مضت نظراً لأن أضرارها أكثر من منافعها. إن السجن ليس مكاناً للمدينين،
إنما هو مكان للمجرمين والإرهابيين وتجار المخدرات والمحتالين والنصابين والسارقين
والمزورين وأصحاب القضايا الجنائية وغيرهم.
إن المسألة لا تحتاج إلى تأمل وتفكير كبير،
فأضرار هذه العقوبة جمة على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة كذلك، فالسجن عامل
محطم للفرد ومذل لكرامته وكبريائه والزج به في السجن يهيئ أرضية ليغدو مجرماً، وإن
لم يكن كذلك فيصبح مريضاً ومقهوراً نفسياً ومعنوياً، بل خصماً وكماً مهملاً من
رصيد البناء وليس قادراً على العمل والإنتاج فحسب، إنما عالة على ذاته وأسرته
ومجتمعه، وقد يشكل خطورة عليه وعلى السلام الاجتماعي برمته.
بيد أن ضرر سجن الفرد عادة ما يطول أسرته كذلك،
فهي بعد أن اتخذت منه راعياً وقدوة حسنة ومثالاً يُحتذى في التربية والتنشئة، فكيف
يكون الحال بتلك الأسرة وراعيها قد أصبح رهين الحبس في قضية حق خاص؟ وما انعكاسات
ذلك على الأبناء ومستقبلهم؟ كما أنها تفقد مصدر دخلها ومعيشتها نتيجة لحبس راعيها،
ناهيك عن حزمة كبيرة من المخاطر النفسية والأخلاقية والتربوية التي تحيق بالأسرة
كلها التي تجعلهم في وضع لا مندوحة عنهم للجنوح، بل الانحراف وضياع مستقبل الأسرة
بكاملها والأبناء على وجه الخصوص. وعلى صعيد المجتمع فإن الأضرار عليه فادحة
وعظيمة، نظراً لأن الفرد الذي يتم سجنه ثم يُفرج عنه ولو بعد حين يُتوقع أن يتحول
في حالات كثيرة إلى شخص غير سوي تنتابه ميول إجرامية خطيرة، أما الدولة فتتحمل
مبالغ باهظة نظير ما تقوم بتوفيره لذلك الشخص المسجون من رعاية معيشية وصحية
ونفسية ومتابعة مستمرة له، فضلاً عن الرعاية والمتابعة الأمنية التي تقوم الدولة
بتوفيرها للأعداد الكبيرة من أولئك المسجونين.
وعلاوة على ذلك فإن هذه العقوبة تتعارض مع عدد
من الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة، التي على رأسها الاتفاقيات
المعنية بحقوق الإنسان، خاصة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم
المتحدة في عام 1948 التي تضمنت المادة التاسعة منه على أنه لا يجوز اعتقال أي
إنسان أو حجزه، والميثاق العربي لحقوق الإنسان المعتمد من القمة العربية في تونس
في 23/5/2004، حيث تضمنت المادة (14/2) منه على عدم جواز حرمان الأشخاص من
حرياتهم، كما نصت المادة (18) من الميثاق نفسه على أنه (لا يجوز حبس شخص ثبت
قضائياً إعساره عن الوفاء بدين ناتج عن التزام تعاقدي)، وصادقت المملكة على هذا
الميثاق، كذلك إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الصادر في 5/8/1990، حيث
تضمنت المادة (19/د) على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة، وكل هذه
المواثيق والاتفاقيات تعارض مثل هذا النوع من العقوبات.
إن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد
العزيز - حفظه الله - أقر نشر ثقافة حقوق الإنسان، كما أن ولاة الأمر - رعاهم الله
- منحوا صلاحيات واسعة وكبيرة لهيئة حقوق الإنسان في أن تتابع كل ما يتعلق بحقوق
الإنسان في المملكة، لذا فإنه يؤمل ويعول كثيراً عليها أن تضع في صدارة أولوياتها
مساعدة كل الجهات المعنية الأخرى بوضع الأنظمة اللازمة أو تعديلها للتعجيل بإلغاء
عقوبة السجن عن سجناء الحق الخاص، كما أن نظام هذه الهيئة الصادر في عام 1426هـ
أوكل العديد من الأهداف والاختصاصات إليها، إذ تضمنت المادة الأولى من نظامها على
أن هدف الهيئة هو حماية حقوق الإنسان وتعزيزها وفقاً لمعايير حقوق الإنسان الدولية
وتأكدها من تنفيذ الجهات الحكومية للأنظمة واللوائح السارية، وكذا إبداء الرأي في
مشاريع الأنظمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ومن هنا يأتي دورها في الالتفات لهذه
العقوبة، وبالذات تأثيراتها السلبية في الصورة المشرقة للمملكة.
وبناءً على ذلك كله، فقد حان الوقت لاتخاذ
القرار بإلغاء عقوبة السجن لسجناء الحق الخاص على أن يستثنى من ذلك بعض الحالات
مثل حالات النصب والاحتيال والشيكات دون رصيد والنفقة على الأبناء وغيره، وأن يصدر
نظام عاجل في هذا الخصوص يوضح كل التفاصيل الخاصة بهذا الأمر بما في ذلك الآليات
العملية التي تمنع من استغلال هذا النظام في التلاعب وأكل حقوق الدائنين، ويمكن
على سبيل المثال اللجوء إلى العديد من الحلول البديلة مثل المنع من السفر وتجميد
الحسابات المصرفية إلى حد قيمة الدين ومنح القضاة صلاحية استقطاع جزء من راتب
الموظف أو العامل في القطاع الخاص ومصادرة الأموال الثابتة والمنقولة إلى الحد
الذي يغطي قيمة الدين إلى جانب تعطيل مصالح المدين كافة عن طريق الحاسب الآلي أو
الحكم عليه بأي من تلك العقوبات البديلة دون الإخلال بحق الدائن في العودة على
المدين متى ما ثبت أن لديه المال أو الممتلكات التي تساعد على سداد دينه، وغير ذلك
من العقوبات البديلة.
لقد أقرت الشريعة الإسلامية المبدأ العام (بنظرة
إلى ميسرة) فيما يتعلق بسداد الديون في حال عدم قدرة بعض الأشخاص على ذلك، لذا يقع
على عاتق الجهات المختصة وكل المعنيين والحادبين على مصلحة هذا الوطن وضع نظام
يراعي عدم انتهاك حقوق الإنسان وسلب حريته من أجل دين مستحق عليه مع ضرورة وضع
الآليات اللازمة لتنفيذه وضمان كفاءته وتحقيق فوائده على الفرد والأسرة والمجتمع
والدولة.