رسالة إلى وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء المكلف
د.خالد النويصر
بداية نسأل المولى العلي العظيم أن يوفق معاليكم ويكتب لكم السداد في مسؤولياتكم الكبيرة ومهامكم الجسيمة بعد أن أصبح معاليكم على رأس أكبر جهازين عدليين في المملكة، حيث تأخذون على عاتقكم مهمة النهوض وترقية الجهاز العدلي والقضائي برمته في مملكتنا الغالية في ضوء مشروع سيدي خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء، ولا أخفي على معاليكم أننا جميعاً نشفق عليكم من حمل هذه الأمانة الكبيرة التي أبت حملها السماوات والأرض والجبال كما قال تعالى: ''إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ
عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُومًا جَهُولا'' (72) سورة الأحزاب
وإني إذ أدرك حجم الهموم والتحديات الكبيرة التي تتصدون لها، أتفق مع الرأي القائل إن عدد القضاة يظل إحدى المعضلات والهواجس المقلقة التي لها تأثيرها في عملية سير العدالة وقيام القضاء بدوره المهم في حياة الناس ورد الحقوق لأصحابها ونصرة المظلومين وردع الظالمين وتوطيد دعائم العدل والحق للناس كافة، إلا أن معالجة مشكلات القضاء لا تقتصر على زيادة أعداد القضاة فحسب، إنما هناك أمور مهمة كثيرة في هذا الجانب وددت طرحها على معاليكم من باب الحرص على ترسيخ قيم العدل والعدالة واستنهاض دور القضاء ليضطلع بمهامه على الوجه المنشود المرجو منه في هذه البلاد الطاهرة
إن هناك معضلة كبيرة تتلخص في أن الدعاوى تستغرق وقتاً طويلاً في إجراءات التقاضي، ما نتج عنه تعطيل لحقوق الناس والإضرار بمصالحهم، وتلك مشكلة حقيقية كبيرة لن تحلها زيادة أعداد القضاة أو قيام المحاكم المتخصصة، وهما بالتأكيد نقلة نوعية وخطوة إلى الأمام، إلا أن الأمر يستوجب البحث في الموضوع برمته والأسباب الحقيقية التي أدت إلى خلق هذا المناخ، وذلك عن طريق سن الأنظمة التي تحد من الدعاوى التي تهدف إلى المماطلة وضياع حقوق الناس، فالدعاوى كثيرة ومتعددة الأشكال والأنواع، منها ما هو صحيح، أي أن رافعيها أصحاب حق عجزوا عن استيفاء حقوقهم من المدينين وأضحى القضاء خيارهم الوحيد، وهناك من يلوذ بالقضاء لاعتقاده أنه صاحب حق وربما غير ذلك، والبعض يلجأ إلى القضاء لإقامة دعاوى كيدية وإشغال القضاة والمحاكم، وهناك البعض الذي استجار بالقضاء، لأن هناك من ماطله وامتنع عن إعطائه حقوقه، مستغلاً السنوات التي يستغرقها النظر في مثل هذه الدعاوى، والتي تساعد أولئك المماطلين على كسب عامل الوقت وتعطيل حقوق الناس أمداً طويلاً، خاصة أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه الحال هو أن يُلزم المحكوم عليه برد المبلغ المستحق الأصلي فقط دون أن تتبع ذلك أي عقوبات أو غرامات مالية من جراء هذه المماطلة
لهذا كله، ولأسباب عديدة لا يتسع المقام هنا لحصرها اكتظت المحاكم بقضايا كثيرة استغلالاً للوضع القائم والنظام المعمول به، ونتج عن هذا أن أضحى التعقيد والتأخير كله يُنسب إلى المحاكم والقضاة، وهذا أمر غير صحيح البتة، لأن الإشكالية القائمة تكمن في أن الأنظمة المعمول بها عفا عليها الزمن، ولم تعد مواكبة لإيقاع الحياة المتسارع والضرورات المتلاحقة في حياة الناس
إذاً ما الحل الذي يرد للقضاء هيبته ومكانته واحترامه، ويعيد للناس حقوقهم دون تعطيل أو مماطلة كما علمنا بذلك وأرسى أسس وقواعد القضاء المؤسس العظيم الملك العادل عبد العزيز - رحمه الله - حتى يكون معلوماً للجميع أن ساحة القضاء ليست مجالاً للتلاعب والمماطلة، وإن شغل الناس والقضاة بدعاوى كيدية أو المماطلة في إيفاء الناس حقوقها، أمر غير مقبول نهائياً، إلى جانب أن له نتائج وآثار عكسية كبيرة
لذلك فإن هناك بعض المقترحات التي يمكن أن تسهم في حل هذه الإشكالية، والتي نوردها لمعاليكم على النحو التالي
أولاً: إنه حان الوقت لإعادة النظر في مبدأ مجانية التقاضي الذي أدى بطريقة أو بأخرى إلى تراكم القضايا المقامة لدى المحاكم وزيادة أعدادها، ولو كانت هناك رسوم تُفرض على كل دعوى ويسدد المدعي جزءاً منها لدى التقدم بدعواه أمام القضاء، وبعدها يصدر حكم القاضي بإلزام الطرف الخاسر للدعوى بسداد الرسوم كاملة، على أن تكون تلك الرسوم مقررة بمنطوق الحكم النهائي على من يخسر الدعوى وأن تكون مشمولة في صك الحكم ذاته، ولو تم ذلك لأحجم الكثيرون عن إقامة الدعاوى الكيدية أو المماطلة في إضاعة حقوق الناس وشغل المحاكم والقضاة وهدر طاقاتهم وتبديد وقتهم وصرفهم عن النظر في قضايا صحيحة ومحقة أخرى
لذا يستلزم الأمر وضع نظام خاص بالرسوم القضائية الذي تعمل به كثير من دول العالم شريطة أن تُراعى فيه مساعدة ذوي الدخل المحدود الذين لا قِبَل لهم بتحمل تلك الرسوم بحيث تُدفع تلك الرسوم عنهم عن طريق صندوق مخصص لها، ما يدفعه الآخرون المقتدرون، ومثل هذا الصندوق ستكون له فوائد جمة من بينها أن تُصرف عائداته على تطوير جهاز القضاء وتدريب العاملين فيه والمساهمة في دفع أتعاب المحامين الذين توكلهم المحكمة في حال عدم استطاعة أحد الأطراف الدفاع عن نفسه، وكذا تغطية مصروفات الخبراء وغيره
ثانياً: آن الأوان لإيجاد تقنين واضح ومحدد لموضوع مصروفات الدعوى، نظراً لأن الدعاوى في الوقت الحالي تلزمها مصروفات طائلة، لذا لا يجوز أن يُترك المماطل بأن يرد ما بذمته من حقوق فقط، والحال أنه قد أضر بخصمه وأشغل القضاة بمماطلته، ولربما لسنوات عدة، إذ لا بد من تحميله كذلك مصروفات الدعوى التي كان سبباً في إقامتها، وعليه أن يدفع إلى جانب ذلك أتعاب المحاماة التي أدت بالدائن (صاحب الحق) إلى القيام بدفعها لمحامٍ أو أكثر لمقاضاة المدين، على أن توضح كل هذه المصروفات في صك الحكم الصادر في الدعوى ذاتها، وبذلك يصبح معلوماً للجميع أن اللجوء إلى القضاء تكلفته أكبر بكثير من منح الناس حقوقهم في حينه بعيداً عن ساحات المحاكم
ثالثاً: وضع تنظيم واضح ومحدد ومتفق مع الشرع الحنيف للتعويض عن الضرر الحادث، بسبب تعطيل حقوق الناس وإطالة أمد التقاضي، وما يستتبع ذلك من تعدد للجلسات، وتقديم المذكرات والمرافعات، وما يُصرف من وقت وجهد ومال في هذا الجانب، إذ لا يجوز أن يحبس المماطل ما عليه من مبالغ بذمته طوال فترة التقاضي التي قد تستغرق سنوات عدة دون أن يعوض صاحب الحق عما لحقه من ضرر نتيجة لذلك، إلى جانب ما يلحقه من ضرر نتيجة ضعف القوة الشرائية بسبب العامل الزمني، فالمبلغ الذي له قوة شرائية اليوم لا محالة ستضعف قوته الشرائية بعد سنوات عدة من التقاضي
رابعاً: لقد حان الوقت بأن تكون هناك آلية مقننة واضحة ومحددة المعالم لإتاحة فرص وحق العدالة للجميع دون استثناء في اللجوء إلى المحكمة العليا طالما توافرت الشروط والضوابط القانونية التي ينص عليها التقنين المنظم لذلك والمرجو صدوره كما هو متعارف عليه في العديد من الأنظمة القانونية الأخرى في العالم، وذلك بدلاً من إرهاق الجهات الرسمية بدراستها وتمحيصها، ومن ثم التقرير في وجوب أو عدم إحالتها إلى المحكمة العليا، وهذا لعمري يُضيف إلى العدالة رصيداً ضخماً، حيث إنه سيتيح للجميع الحق في التمتع بفرص العدالة نفسها دون تفرقة أو أفضلية أو محسوبية
وإذا كانت الظروف التي تمر بها المنطقة لا تسمح بقيامها لاعتبارات كثيرة في الوقت الحالي، خصوصا على شكل انتخابات، فعلى الأقل يا حبذا لو تم البدء فيها بشكل تعيينات في المرحلة الحالية إلى حين الوقت المناسب، لتكون رافداً لتكريس مبادئ العدل والعدالة ودعم وتطوير هذه المهنة الإنسانية النبيلة.